سبق وان قلنا في تقديمنا لأنواع التراتيل مثل (اِمر لي عيتا ايكا ؤبٌيتي ابٌنكي إمر لي عيتا أيكا صويت اونيخ …) وهي من مقام البيات و ( ةًاوو سبٌوو اخًيْ ـ تاو ساو احاي ) من مقام أورفا ديواني .و(سلق لؤليبًٌا سلق لصليوا ) من مقام السيگا . و( امين امين ! آمين أمين ) من مقام الصبا و (قوم شفير قوم شَـپـير ) من مقام الحجاز,( خنين خننا حنين حنانا و گياسا وكروّا جيسا وكربًٌا) وهي ترتيلة تصور جدالاً بين الكروب ( كاروبيم وهو جنس من الملائكة حسب كتاب المقدس ) الذي يحرس باب الجنة وبين اللص الذي اراد الدخول الى الجنة .وهذه القصيدة الطويلة التي تزيد على مائة بيت من الشعر السرياني شاعرها عاش في القرن الرابع الميلادي اي قبل الف وستمائة عام !! اخترتُ منها ثمانية ابيات فقط وغنيتها مع ترتيلة ( خونين خنًًنًا ــ حونين حنانا) لأن كليهما من مقام النوى
ان هذه التراتيل وهذه المقامات هي بالاحرى امتداد للتراتيل وللأنغام والموسيقى السومرية ـ الأكدية والاشورية ـ البابلية لانها تخضع لعلم الموسيقى, وهذا لم يتم انجازه الا في مهد الحضارة ارض الرافدين مع الإبداع المضاف في المراحل اللاحقة, واستطاعت الكنائس الشرقية بذلك ان تحافظ على ذلك الأرث والكنز الفني الذي خلقته العبقرية الرافدينية عبر الاف من السنين كشعاع من اشعة الحضارة الذي ظل يضيء قروناً رغم الدمار الذ اصاب سومر واكد وبابل واشور جراء غزو البرابرة لأرض الرافدين ومحاولة طمس كل الانجازات الحضارية ليحل محلها التخلف والانحطاط في كل جوانب الحياة ومنها الموسيقى ..ولكن من تبقى من أحفاد تلك الحضارة قد حافظوا على بعض الجوانب المشرقة من حضارة أجدادهم العظماء وبشكل خاص الجانب الموسيقي لأنهم نقلوه الى معتقداتهم وحياتهم الجديدة كميراث خالد .وبعد اعتناق شعبنا الدين المسيحي كان له خزين هائل من الالحان والتراتيل والاغاني والملاحم والالات الموسيقية التي توارثها جميعها من اجداده فلم يجد صعوبة في ادخال تلك الانغام في المعتقد الجديد بل ابد فيها منذ القرون الاولى لاعتناقه المسيحية . ومن الجدير بالذكر ان القرن الرابع والخامس والسادس الميلادي انجب شعراء سريان عباقرة اصبحوا فيما بعد مدرسة لكل الشعراء الذين جاءوا بعدهم, حتى من غير السريان . ومن هؤلاء الشعراء العظام مار افرام السرياني (306 ـ373 م)الذي كتب قصيدته الشهيرة في العلم والكتاب وقد جاء فيها ( كةبًٌا نىوٍا فةٌورك: ةسبع منى بوسًمًا كثاوا نهوِ پاثورخ تسبع منه بوساما( ليكن الكتاب مائدتك لتنال منه السعادة .. ) واظن منه اخذ ابو الطيب المتنبي بيته الشهير ( وخير جليس في الزمان كتاب )! ولا غرابة في ذلك لان هذه التراتيل والقصائد كانت ترتل وتعلم وتدرس في الكوفة وكربلاء التي كان يوجد فيها اكثر من ثلاثة وثلاثين ديرا وكنيسة لغتها وطقوسها سريانية لأنها كانت لغة كنيسة المشرق .ولما كان ابو الطيب المتنبي قد عاش في الكوفة في (915 ـ 965م ) يكون مار افرام قد سبقه بستمائة عام !! .. ومن الشعراء السريان المشهورين ايضا مار نرساي ( 399 ـ 502م ) ومار يعقوب السروجي (الذي توفي عام 521 م . وقد نشرت في صفحتي في الفيسبوك عددا من هذه التراتيل ومنها الجدال بين الملاك واللص .وهذا النوع من الحوار الشعري في القصيدة التي رتلتها على العود والذي انتشر في التراتيل الكنسية منذ القرون الاولى يمثل جنس ادبي على شكل حوارات وجدالات وعلى شكل مشاهد درامية كما في هذه الابيات الثمانية التي اخترتها من قصيدة طويلة لشاعر مجهول عاش في القرن الرابع الميلادي, وهو كما قلت حوار بين الكروب الذي يحرس باب الجنة واللص
أمر لي جبٌرا من شدرك : ومن بعا انّة وايكا أةية ايدا علةا قرةك لكا : جلي وفشق لي من ايةيك الكروب : قل لي يا هذا :من الذي أرسلك ؟ ما الذي تريده ,كيف وصلت الى هنا؟! ومن الذي اتى بك الى هذا المكان؟ قف وبين لي دواعي مجيئك ! امر أنا لك دلي مشالة : كلي لشنًنك وملي شمع جيسااّنا ورخمٍا بعية : ومًرك شدرني واةية لكًٌا الكروب :سأقول لك يا سائلي : ابعد رمحك واصغ الى ما ساقوله انا لصً ولكنني تبتً وسيدك هو الذي أرسلني
وهذه التراتيل ومئات غيرها والتي تُرتل في كنيسة المشرق منذ قرون عديدة , تشمل معظم المقامات لتثبت اصالة التراتيل السريانية وارتباطها الوثيق بالتراتيل والحان الاشورية البابلية السومرية وكونها امتدادا لها ,والتي أصبحت فيما بعد الأرضية الخصبة التي نشأ عليها ومنها المقام العراقي. ولما نشرت هذه المقدمة في صفحتي جاءتني عدة ردود, منها هذا الرد الذي ارتأيت ان اجيب عليه جوابا وافيا اوضح فيه جوانب الغموض من خلال حقائق علمية وتاريخية حسب رأي المتواضع وهو بالطبع قابل للنقاش.وهذا هو رد الصديق الفاضل : ..
(مع احترامي الفائق لك أستاذ لطيف پـولا ..لا توجد تراتيل سريانية او اشورية ..قبل 500 سنه كانت كنيستنا واحده ..وهي بالطبع كنيسه المشرق ..والمقامات هي احدى الدروس التي تقدم في المعهد الكهنوتي ببغداد ..ليس فقط التراتيل ..بل قراءه الانجيل ..والاساتذه هناك يعلمون الاداء ويهذبون الصوت ايضا ..وهذا الاداء لم اسمعه من اي ابريشيات لا الكلدانية او الاشورية او حتى من الابريشيات السريانية في سورية وبلاد الشام
وهذا ردّي على الصديق العزيز
بعد التحية
هل تقصد ان هذه التراتيل وآلافا اخرى لم تكن ترتل قبل المعهد الكهنوتي ؟؟!!. إذا ماذا كان يرتل اتباع كنيسة المشرق التي وضع اساسها رسل المسيح مار أدَّي و مار ماري منذ القرن الأول الميلادي أي قبل معهد الكهنوني بالف وخمسمائة سنة ؟! . هذه التراتيل التي رتلتها على المقامات النوى والصبا والبيات والسيكا والحجاز والطوراني البخ , هي من وضع مار نرساي( 399 ـــ 502 م ) و مار أفرام السرياني ( 306 ــ 373م ) ومار يعقوب السروجي ( 401 ـ 521م ) ومار ماروثا في القرن الرابع ومار رابولا الرهاوي (435م)، ومار ماروثا التكريتي (649م)، و مار يعقوب الرهاوي (708م)، وغيرهم من الشعراء العظام وملافنة كنيسة المشرق الذين سبقوا المعهد الكهنوتي بأكثر من الف عام . ومن الجدير بالذكر ان هذه المقامات وغيرها كانت ايضا ترتل في المعابد الاشورية والبابلية والسومرية والاكدية قبل ان يعتنق شعبنا المسيحية .ويذكر علماء التاريخ ان في بلاد الرافدين كان يوجد اكثر من ثلاثة الاف معبد ولكل معبد جوقة موسيقية , وللتاكيد على ذلك قرأت يوما رسالة لشاب سومري بعثها الى امه جاء فيها مايلي : ( اماه تعبتُ من السير في شوارع اريدو بحثا عن العمل ومن شدة تعبي جلستُ لكي استريح على عتبة احدى القاعات الموسيقية في اريدو ) .. واريدو كما هو معروف هي احدى المدن السومرية .. أسمعتِ يا رابيتا ماذا قال هذا السومري ؟ فهو يقول كان يوجد قاعات موسيقية بالاضافة الى ما كان موجودا من جوقات وفرق موسيقية في المعابد للترتيل وموسيقى الاحتفالات واخرى عسكرية التي كانت ترافق الجيوش في ذهابها للقتال و استقبالها بعد انتصارها على العدو . ولعلكِ شاهدتِ لوحات العازفين على الرقيم لعدة الات موسيقية بابلية او اشورية او سومرية , اجل الذين ابتكروا العود والقيثارة والسنطور والجوزة والمزمار وانواع الايقاعات هم البابليون والاشوريون والسومريون والاكديون ولا بد ان يكونوا قد وضعوا موسيقاهم على اسس علمية خلال حضارة استمرت اكثر من سبعة الاف عام . من الذي وضع هذه المقامات التي تسمى اليوم مقامات عراقية ؟ لابد ان يكون شعبا له حضارة والالات موسيقية . الشعوب التي قدمت من الصحاري او التي لم يكن لها حضارة لم يكن لها علم الموسيقى ولا يمكن ان تكون لها مدارس موسيقية تعتمد على علم الموسيقى والمقامات . ولما كان المقام مبني على العلم فلابد لشعب الرافدين ان يكون هو صاحب هذه الثروة الموسيقية والا لماذا سمي عراقي لأن منشاه هنا من هذه الارض وحتى الموالات الشعبية كالسويحلي والتي تعني بالسريانية ( اشتقتُ) والنايل التي تعني بالسريانية ايضأ
( عذاب , سقم ) وكذلك الأبوذية ,, كل ما هو عراقي الأصل .يعود الى الحضارة كذلك المقامات والاهازيج والمربعات بدلالة انها تغنى في العراق فقط لأنها هنا ولدت ولازال شعبها يغنيها حتى وان تبدلت لغته او معتقده فقد نقلها معه حينما اجبر على تغير لغته ومعتقده واسمه وحتى ملبسه وما التراتيل الا جانبا من تلك الالحان والانغام والمقامات من جنوب العراق وحتى شماله بل ابعد من ذلك بكثير وانتقلت الى شعوب مجاورة اخرى .. وقد اكد على ذلك العلامة المرحوم طه باقر حينما قال: ان هذه المقامات العراقية كانت موجودة في زمن الاشوريين والبابليين وكل ما حصل هو فقط غيروا أسماءها او صُحفت. وذكر العلامة المرحوم طه باقر اسماء معظم المقامات العراقية باسامئها الاشورية ـ البابلية ( الأكدية ) . ومن الجدير بالذكر ان اجدادنا الاشوريين والبابلين والسومريين قد ابتكروا السلم الموسيقي السباعي واستعملوه في موسيقاهم , غنائهم وتراتيلهم قبل غيرهم ولا يزال يستعمل في التراتيل الكنسية وعلى معظم المقامات العراقية المعروفة . في عام( 1929م ) أكتشف عالم الآثار البريطاني السير (لينارد وولي ) في مدينة أور جنوب العراق، في قبر الملكة ( بو آبي ـ شبعاد ـ 2450 ق.م) مجموعة من القيثارات وآلات موسيقية ذات أوتار متعددة ، وكانت من بين هذه القيثارات المكتشفة قيثارتان 1ـ الذهبية 2 ـ الفضية والتي يعود تاريخهما إلى (2450 ق. م ) أي قبل زهاء 4470 سنة . القيثارة الذهبية محفوظة اليوم في المتحف الوطني العراقي قسم السومريات في بغداد، اما القيثارة الفضية فهي محفوظة في المتحف البريطاني ـ لندن وكل قيثارة تحمل احد عشر وترا ً . وهذا يدل على ان السومريين كانوا قد بلغوا درجة عالية من التطور في الموسيقى ومنهم انتقلت الى الشعوب المجاورة . وقد اكتشف العلماء كثير من هذه الالات المتطورة في المقابر الملكية من هذه القيثارات تحمل ثمانية اوتار وقسم منها احد عشر وترا وأخرى ثلاثة عشر وترا . وكان السلم الموسيقي لدى السومريين سباعياً. ولما اعتنق احفاد السومريين والبابليين و الاشوريين المسيحية نقلوا معههم ذلك الميراث العظيم والتراث الخالد في الموسيقى والترتيل وكان خزيناً هائلا من الالحان والانغام وحتى الصلوات والممارسات الدينية والتقاليد الاجتماعية ,لحضارة عظيمة دامت الافا من السنين, ورثها شعبنا من اجداده , من معابدهم وشعائرهم الدينية كاعياد اكيتو وقصة الخليقة وملحمة كلكامش وقصة الطوفان وغيرها نقلها الى معتقداته الجديدة واضاف اليها اشياء اخرى من ابداعاته ولكن الاساس كان هنالك في مهد الحضارة عند اجداده . شعبنا لم ينقطع عن حضارة اجداده وتراثهم وميراثهم رغم زوال حكمه السياسي ورغم كل المأسي والدمار الذي اصابه , لآننا لا زلتا نعيش على ارض اجدادنا العظام ونتكلم لغتهم ونرتل تراتيلهم والحانهم وانغامهم . الذي تغير هو الشكل فقط . ولو سالت ياصديقي الاساتذة الأفاضل في المعهد الكهنوتي المختصين بالتراتيل والموسيقى والتاريخ سيؤكدون لك ما ذهبتُ اليه ,لأن وجودنا التاريخي والاجتماعي والديني والادبي والفني لم يبدأ قبل خمسمائة عام فقط ,كما تفضل يا صديقي الفاضل , بل منذ ان علَّم اجدادنا البشرية اسس الحضارة من القراءة والكتابة الى علوم الفلك والرياضيات والقوانين والموسيقى والترتيلكان ذلك كما ذكرنا قبل اكثر من ( 4500 ) عاماً , يوم كان كثير من الشعوب لا زالوا من سكان الكهوف والغابات لم تنضج عندهم حتى اللغة البسيطة للتعامل مع البشر